مقلاع هيب هوب" الفلسطيني

بالحجر.. ومع انتفاضتهم الأولى، عام 1987، دخل الفلسطينيون قائمة اهتمام العالم، ومعهم أدخلوا لفظة الانتفاضة إلى لغات العالم!.. يومها، أوقدوا هبَّتهم الشعبية في وجه جيش الاحتلال، وتفننوا في الصمود والمواجهة، وفي أيديهم حجر.. حينها لم يكن، حتى أكثرهم سعة خيال، يتوقع أن يحصل ما جرى، أو أن يستمر، ويغدو أسلوب مقاومة..
بعد سنوات، وعندما عادوا لانتفاضتهم الثانية، عام 2000، شغلوا العالم بتلك العمليات التي قسمت الدنيا كلها، من فلسطينيين وعرب، أشقاء وأصدقاء، تماماً وقبل غيرهم، حول جدواها، ومشروعيتها، وصوابيتها.. ولم يتوقَّف الجدال بصددها، حتى كفَّ الفلسطينيون عنها، بعدما اعتقدوا أنها أسلوب مقاومة..
وقبل هذه وتلك، كان الفلسطينيون قد انتضوا سلاحهم، وبنوا فصائلهم الثورية المسلحة، وكاثروها عدداً وعدة، ومارسوا التنظير للحرب الشعبية الطويلة الأمد، والكفاح المسلح طريقاً وحيداً، قبل أن يأتيهم الإلهام، ذات عشية في أوسلو، ويكتشفوا أن المفاوضات يمكن أن تكون برنامج إجماع وطني، وخيار استراتيجي.. وأسلوب مقاومة.
كأنما الفلسطينيون لم يتركوا وسيلة لم يجربوها، ولا سبيلاً لم يسلكوه، ولا خيبة لم يقطفوها!.. وسيجتمع، على صفيح القضية الفلسطينية الساخن، هؤلاء جميعاً، متنابذين متجادلين متشاحنين.. إذ يُسقط السياسي ظلَّه الثقيل على الصورة، فيريد تنميطها ووضعها في إطاره المحدد، ليقول: هذه هي صورة الفلسطيني!..
الصورة ذاتها تغدو محط سؤال أثرناه، ونعيد إثارته: ترى ما هي صورة الفلسطيني التي نريد، أو التي ينبغي تقديمها؟.. هل هي صورة اللاجئ المُذلّ المُهان في مخيمات اللجوء والتشرد؟.. أم هي صورة الفدائي الملثم (أيام الثورة المسلحة) القابض على سلاحه (بالفوتيك أو المرقّط)؟.. أم هي صورة الاستشهادي يتلو وصيته الأخيرة، أمام كاميرا زائغة، قبل أن يتشظّى جسده أشلاء قاتلة؟..
هل هي صورة الطفل العاري متعثراً بين الخيام، الصارخ ببكاء جارح، مرعوباً ربما أو جائعاً؟.. أم صورة طفل الآر بي جي؟.. أم طفل الحجارة؟.. أهي صورة محمد الدرة يُقتل لائذاً بأبيه؟.. أم صورة فارس عودة يواجه الدبابة؟.. هل هي صورة المرأة الفلسطينية الجالسة بين الخيام توقد نار البؤس تحت إناء طعام أكثر بؤساً؟.. أم صورة (أمّ محمد فرحات) تودع ابنها للاستشهاد؟.. أم هي حنان عشراوي التي فتنت العالم، ناطقة باسم الوفد الفلسطيني المفاوض حيناً، ومدافعة عن حقوق الإنسان حيناً آخر؟.. هل صورة عبد العزيز الرنتيسي، أم ساري نسيبة؟.. عزمي بشارة أم يعقوب قره؟..
لا تبدو المخرجة الفلسطينية جاكي سلوم آبهة لأي من هذه التفاصيل، بل إنها تذهب إلى تفاصيل جديدة في صورة الفلسطيني. إنها، عبر فيلمها مقلاع هيب هوب، الوثائقي الطويل (مدته 87 دقيقة)، والذي يجول العالم بعروضه من مهرجان سندانس في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى مهرجان دبي السينمائي، مروراً بأوروبا، تقدم صورة جديدة، وربما استثنائية، غريبة ومفاجئة، وربما صادمة، ترجّ الرائج والساكن، وتقدم نفسها عبر مجموعات من الشباب الفلسطيني، سواء في الأراضي المحتلة عام 1948، أو في الضفة الغربية، وقطاع غزة المحتلتين عام 1967.
ترصد المخرجة جاكي سلوم فيلمها، لرصد حكاية ولادة ونشوء وتطور ظاهرة الهيب هوب السياسي، وأغاني الراب، وانتشارها في أوساط الشباب الفلسطيني، وتحولها إلى أسلوب لدى هؤلاء الشباب للتعبير عن أنفسهم، ونظرتهم للحياة، وللوجود، والمستقبل، والمصير.. أسلوب تتكثف فيه الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية، على السواء.
وعلى الرغم من غرابة هذا الشكل، وجدّته، وهو في كل حال لم يبلغ العاشرة من عمره بعد، إلا أن المخرجة اختارت أن يبدأ الفيلم بمقاطع صوتية لخطابات عربية شهيرة، أهمها بعض ما قاله الراحل جمال عبد الناصر عن الشعوب والأجيال، وتطور الحياة، وعما تشهده هذه الأجيال من تحولات وتطورات، تصنعها بأيديها.. وكأنما المخرجة أرادت بهذه البداية التأسيس والتأصيل لحقيقة أن لكل جيل أسلوبه في التعامل مع القضية المستمرة من جيل إلى آخر.. ربما حتى لا يقوم أحد بتكفير الآخر، ورجمه.
الاحتماء وراء صوت عبد الناصر، وخطاباته المنتمية إلى زمن ولّى، لا تعدو أن تكون مدخلاً، لن تتم العودة إليها، ولا الاستعانة أو التذكير بها، في أيّ من مفاصل الفيلم، أو نهايته، ولن نرى صاحب الصوت، الذي كان سيستغرب حتماً تآلف صوته وقوله مع الصور التي نراها، إذ أن المقاطع الصوتية تأتي مترافقة مع مزيج من الصور الحية والتحريكية لمجموعة من الشباب والشابات، يرقصون على إيقاع غربي، متمازج من لقطات أرشيفية سريعة، باتت مألوفة من فلسطين المحتلة، كالجدار، والانتفاضة..
في متن الفيلم، وعند البداية نلتقي شوك دي أحد أوائل من حقق هيب هوب سياسي، في العالم، وهو الطراز الفني الذي عرف وشاع عن السود الأميركيين، في أحياء هالم، وغيرها.. وبالتالي فإن المرجعية الحقيقية للفعل الفلسطيني هذا إنما هو استقاء من تلك التجربة الفريدة والغنية التي قدمها مغنون سود، فكانت وسيلتهم للتعبير عن مدى الظلم والحيف الذي يلاقونه في مجتمع أمريكي، صادٍّ عنهم.
شوك دي الذي يبدو على هيئة معلم في مجاله، يعتقد أن الراب الفلسطيني هو CNN الفلسطينيين، فيكون صوتهم وصورتهم التي تتسع بقعتها لتشمل العالم، وتتحول إلى ما يشبه السفير الذي ينقل تأففهم مما يلحقهم من ظلم وحيف، تماماً كما فعل زنوج الولايات المتحدة الأمريكية، ذات وقت، وجعلوا من قضيتهم شأناً عالمياً، له مناصروه ومؤيدوه ومساندوه.
سهيل وتامر نفار، شابان من مدينة اللد العربية، هما المؤسسان، برفقة عدد من أقرانهم، للهيب هوب والراب الفلسطيني، وكانت فرقة دام. والرحلة التي تبدأ معهما، ستحاول التعرف الدقيق على هذا العالم الفني الفلسطيني؛ نشأته وتحولاته، المرتبطة أصلاً بنشأة وتحولات هذين الشابين. من هنا كان أمراً هاماً دخول غرفتهما الصغيرة، وتلبية دعوة تامر للقيام برحلة إلى مراجعه في الهيب هوب.
يعدد تامر أسماء الفرق الموسيقية الغربية التي يعرفها، والتي تعرَّف عليها، ويتحدث خاصة عن ألبوم موضوعه: كيف يمكن للرجل الأبيض إيقاف تكاثر العنصر الأسود، وكيف أنه رآه موازياً لـ كيف يمكن للإسرائيلي إيقاف تكاثر العنصر العربي!.. ويعدد أسماء شعراء وكتاب وروائييين فلسطينيين وعرب، فيذكر: إدوارد سعيد، محمود درويش، ناجي العلي، أحلام مستغانمي، نوال السعداوي، نزار قباني، حنان الشيخ..
تامر بوضوح وذكاء شديدين، يشير إلى أن مرجعيته الثقافية التي قادته إلى هذا النسق من الفن ينقسم إلى ثلاثة قطاعات: 30% الموسيقى ذاتها: خاصة الهيب هوب، و30% الكتابة: الشعر والرواية والفلسفة، و40% الواقع العربي الفلسطيني، الذي يطل عليه من نافذته..
تنطلق الكاميرا لتتجول في شوارع مدينة اللد.. وتكتشف واقعها المرير، فالجيش والشرطة يغلق الحارات العربية. يضعون الحواجز. المناطق العربية معرضة للهدم. الحجة عدم وجود رخص للترميم. والسلطات لا تمنح الرخص للعرب، حتى لا يتوسع العرب في مساكنهم. الأحياء العربية تفتقد المرافق والخدمات الأساسية.. أيام تمر ولا ماء، ولا كهرباء.. بيوت الصفيح. الحارات الترابية. المجاري المكشوفة. وتكون المفاجأة التي لا يعرفها الكثيرون: مخيم لاجئين في البلاد نفسها..
بالصوت والغرافيك الجيد التنفيذ، يعيد الفيلم التذكير بحكاية النكبة.. طرد الفلسطينيين وتشريدهم، وقيام دولة إسرائيل.. ومن بقي من الفلسطينيين ليعيش على أرض فلسطين أضحى غريباً في موطنه، فيما ينهض الجدار ليسور من بقوا في الضفة الغربية وقطاع غزة، ليعيشوا في معازل!.. والحديث السياسي هنا ليس استطراداً بل في غاية يعلنها الفيلم عندما يرى أن حكاية الهيب هوب الفلسطيني، إنما هي في النهاية حكاية لتفكيك الجدار، الذي يفصل الفلسطينيين عن بعضهم البعض!.. فإذا كانت فكرة تشكيل فرقة لأداء الهيب هوب تعود إلى عام 1999، فهي قد حاذرت الاقتراب من السياسة تماماً، على الرغم من أن تامر كان يعلم أن ما يجري في اللد، من فوضى وإهمال وإجرام، إنما هو بدوافع سياسية، ولكنه حاذر السياسة في البداية، حتى يتمكن من النجاح..
في حفلة أقيمت بتاريخ 16/9/ 2000، يغني تامر: يداً بيد من أجل تطوير الراب الاسرائيلي!.. وها هو الآن يقول كأنما يعتذر: كنا شباب صغار. مشوشين. ونريد النجومية. ولكن كل شيء تغير بعد أسبوعين من هذه الحفلة!.. لقد جاءت انتفاضة الأقصى في 28/9/2000. مع مشاهد من انتفاضة الأقصى، يوضح تامر: كنا غاضبين مما يجري، وما نراه على شاشات التلفزيون، وهذا ما جعل أغنياتنا تصبح غاضبة.. والغضب هذا يمكن أن نجده فعلاً، وخاصة في أغنية: مين إهاربي؟/ أنا إرهابي؟/ كيف إرهابي، وأنا عايش ببلادي؟/ مين إرهابي؟/ إنت إرهابي/ ماكلني وأنا عايش ببلادي/ قاتلني زي ما قتلت جدادي، وهي الأغنية التي طيرت شهرتهم في الآفاق، وأعلنت عن ولادة هذا النوع من الفن في فلسطين.
من مدينة اللد العربية، إلى مدينة عكا، ينطلق الفيلم ليلتقي بالشاب محمود شلبي، الذي حقق تجربته الموازية. ومن المثير أن واقع الحال في اللد لا يكاد يختلف عنه في عكا، حيث الحارات الفقيرة الموحشة، والمشاكل التي تلقي بثقلها على الشباب الفلسطيني المرصود بالفراغ، والضياع، ما بين مقاهي البطالة، والمخدرات..
وفي الوقت الذي بدا أن هذا الطراز من الغناء، أخذ يلقى قبولاً لدى جمهور من الشباب الفلسطيني، فإن نجومه باتوا لا يترددون عن القيام بمهمات متعددة المستويات، ففي أغنياتهم يعبرون عما يدور في أذهان الكثيرين، من تساؤلات، وهم في الوقت نفسه يمدون أيديهم لشباب فلسطينيين آخرين، يطمحون إلى إنشاء فرقهم، خلف الجدار، في الضفة الغربية أو قطاع غزة، فضلاً عن مهمات ذات طابع اجتماعي تربوي، فالفكرة التي يريدها نجوم الهيب هوب الفلسطيني تتكثف في النهاية في كيف يمكن المساعدة عن طريق الموسيقى، وليس عن طريق العنف.. وكيف نتمكن من أن لا نتعلم نخمان بيالك، وهيرتزل.. بل نتعلم محمود درويش، توفيق زياد.. كيف نتعلم تاريخنا.. وكيف نعرف أنفسنا.
ستمتد ظاهرة الراب إلى قطاع غزة، حيث تتشكل فرقة محلية هناك، كما تتشكل فرقة أخرى في مخيم الدهيشة، في الضفة الغربية. ومع أول حفلة راب تُقام في مقر الهلال الأحمر الفلسطيني بغزة عام 2005، تكون المفاجأة، لدى الشباب أنفسهم، في أن غزة تحتمل هكذا نوع من الفن، وهو ما يقود إلى حقيقة النظرة المتبادلة بين أبناء أجزاء الوطن نفسه.
تثري المخرجة جاكي سلوم فيلمها بالكثير من التفاصيل، الحوارات، واللقاءات، والتصريحات، والغناء والموسيقى.. بتناول تاريخ القضية الفلسطينية، وواقعها، والواقع الفلسطيني، ومشكلاته مع الاحتلال وسلطاته وسياساته، من جهة أولى، ومع ذاته من بوابة الأعراف والتقاليد، من جهة ثانية.. وتغني فيلمها بمشاهد وثائقية أرشيفية، فيما تجول الكاميرا على الأمكنة الفلسطينية المختلفة، من اللد إلى عكا ويافا، ومن رام الله ومخيم الدهيشة، إلى قطاع غزة، وصولاً إلى خان يونس.. وتمر على الحفلات التي أقيمت وصولاً إلى نيويورك، وأمستردام.. وترصد رفض هؤلاء الشباب للواقع الراهن، وتغازل حلمهم بالالتقاء أخيراً، وفي حفلة فلسطينية واحدة، تقفز فوق تشتتهم وتفرقهم، وفوق الجدار وسلطته.
تُحسن المخرجة استخدام الغرافيك، سواء عبر التحريك، أو الرسوم والمخططات والتكوينات والكتابات، ويبدو التنفيذ على غاية من الحرفية والمهنية، ساهم في إضفاء روح نشطة تتناسب مع الايقاع اللاهث للموسيقى والفيلم، بكاميرا حرة، ومونتاج حيوي، وجرأة في الكلام والصورة، والتعامل مع الكاميرا.. فذاك هو الأسلوب المناسب، كما نعتقد، لتقديم موضوع على هذا النحو؛ موضوع يبدو من البعيد ضرباً من لهو وعبث وطيش شباب.. ولكن ما أن نقترب منه، حتى ندرك أنه شكل من أشكال الحياة، وأسلوب تعبير عن الذات، والموقف من الوجود والمصير، من وجع الحاضر، وإزاء قلق المستقبل..